الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسعت رحمته كل شيء، ووسع كل شيء رحمة وعلماً. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأهل بيته، أفضل صلاة وأتم تسليم.
على هذا النبي الأمي الكريم، الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة، صلوات الله وسلامه عليه. أسأل الله أن يأتيه الوسيلة والفضيلة وأن يبعثه مقاماً محموداً الذي وعده، اللهم آمين. كما نسأله سبحانه أن يشفع فينا وفيكم هذا النبي الكريم، وأن يسقينا من حوضه لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم آمين.
أيها الإخوة، بارك الله فيكم. في هذه الحقبة من الحياة الدنيا الفانية الزائلة، لزاماً علينا أن نبحث عن الأعمال التي تقربنا من الله، والتي نستجلي بها ولاية الله سبحانه وتعالى لنا، والتي بها ترفع درجاتنا وتحط عنا الخطيئات، والتي بها تجتمع كلمتنا وتأتلف قلوبنا. ولذلك أسباب في كتاب الله عز وجل، وأسباب في سنة نبيه الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. فكل ما من شأنه أن يرفع بنا درجات يوم نلقى ربنا، وكل ما من شأنه أن يوحد صفوفنا وأن يجمع كلمتنا، وكل ما من شأنه أن يجعلنا ندخل في ولاية الله لنا، لزاماً أن نبحث عنه وأن نلتمسه، لعل الله أن يكرمنا بسكن الفردوس مع النبي الأمين عليه الصلاة والسلام.
كان من كريم الأخلاق التي تتسبب لنا في ذلك، والتي ذكرت مراراً في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه الأمين، خلق كريم به نستجلب محبة الله، وكذلك نستجلب به محبة المؤمنين، وبه ترتفع الدرجات وتحط الخطيئات، وتأتلف القلوب بإذن ربها وخالقها، ألا وهو خلق العفو عن الناس.
قال الله سبحانه وتعالى:
﴿والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين﴾
فبعفوك عن الناس تحظى بمرتبة أهل الإحسان، التي هي من أعلى المراتب بعد الإسلام والإيمان. ولقد قال تعالى مبيناً عظيم الأجر لمن سلك هذا المسلك:
﴿فمن عفى وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين﴾
وقال تعالى:
﴿وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم﴾
فهذا الخلق الكريم نستجلب به رحمة ربنا ومحبة ربنا سبحانه وتعالى، وكذلك نأمل ونرجو به أن ندخل في عبادته المحسنين. ثم هو خلق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وخلق لأهل الفضل وأهل الصلاح تحلّوا به واكتسوا بلباسه عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
لقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم: نبياً من الأنبياء من قبله ضربه قومه حتى سال الدم على وجهه، ونبي من أنبياء الله يمسح الدم من على وجهه بيده وهو يقول: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”.
لقد جاء إخوة يوسف الصديق عليه السلام إليه بعد أن فعلوا به ما فعلوا من حسده والتآمر عليه وإلقائه في غيابة الجب، إلى أن بيع بيع العبيد الرقيق في الأسواق، وتسببوا في التفريق بينه وبين أبيه عشرات السنين، وتسببوا في عمى أبيهم بعد ذلك. وعرَّضوا قائلين: “فإن يسرق فقد سرق أخ له من قبل”، فرموه بالتهم وفرقوا بينه وبين والديه. وجاءوا آخر ما جاءوا، لم يأتوا خصيصاً للاعتذار، بل جاءوا عرضاً: “أئنك لأنت يوسف؟” قال: “أنا يوسف وهذا أخي، قد منَّ الله علينا. إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين”. قالوا: “تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين”. لم يصرحوا بطلب العفو أبداً، بل قالوا هذه الكلمة: “تالله لقد آثرك الله علينا إن كنا لخاطئين”. فبادر هو بالعفو، وسبق هو إلى الفضل قائلاً: “لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين”. وغض الطرف عن كل الإساءات التي صدرت في حقه. “لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين”.
وتتوالى الأحداث ويأتي أبوه وإخوته وأمه كلهم يسجدون إليه سجدة التحية، فيقول، ومنه يستنبط العفو كذلك: “يا أبتِ هذا تأويل رؤياي من قبل، قد جعلها ربي حقاً، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن، وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي”. ولم يقل: “قد أحسن بي إذ أخرجني من البئر” حتى لا يذكر إخوته بالإساءات التي صنعوها في حقه، وحمّل الشيطان الجريمة كلها وهو لها أهل، ولم يقل: “من بعد أن ظلمني إخوتي”، وإنما قال: “من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي”. هكذا يتأتى العفو، عفو الكرام. هل ترون أنه هكذا انخفض عند الله أم ارتفع؟ لقد ازداد رفعة بعد رفعة، كما قال النبي الأمين عليه الصلاة والسلام: “ثلاثة أقسم بالله عليهم، ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله بعبد عفواً إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله”.
ونبينا الأمين لم يبتعد عن ذلك بعيداً، عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج من مكة التي هي أحب بلاد الله إلى الله، والتي هي أحب بلاد الله إليه، والتي فيها داره وجواره. طُرد منها وتُتبع لقتله عليه الصلاة والسلام، وبعد قتاله قومه أشد القتال، وقتلوا عمه حمزة، وفي قتال دام عشر سنين، ومع ذلك يدخل مكة فاتحاً بفضل الله، والكل يتوقع أنه يقتل هذا ويشرد هذا ويذبح هذا ويَسبي هذا، ولكن يقول: “من دخل داره فهو آمن، من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن”، تأليفاً لقلب أبي سفيان. وبعد أن مكن الله لنبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، فكان العفو لم يزل شيمة لأهل الفضل وشيمة لأهل الصلاح يتحلّوا به، حتى تجتمع كلمتهم وتنصرف عنهم شياطين الإنس والجن. فإن عفوت عن أخيك، انقطعت عنك وساوس الشياطين في غالب الأحيان بإذن الله، وكذلك كُفّ الشريرون من البشر الساعون في الأرض بالفساد.
ولقد لا يخفى عليكم أن النبي عليه الصلاة والسلام طُعن في عرضه، عرض زوجته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكان من ثَمَّ طعن في أبي بكر الصديق. فمن منكم الذي يتحمل أن يقال على ابنته إنها فعلت فاحشة، وتلاكم بذلك الألسن وتنتشر تلك القالة السيئة بين الناس أن عائشة فعلت الفاحشة؟ ومن الذي يتقول عليها بمثل هذه الأقاويل؟ منهم رجلاً من أهل الفضل، سابقاً مهاجرياً بدرياً وهو مسطح بن أثاثة رضي الله عنه، قريب لأبي بكر، ينفق أبو بكر عليه، شهد بدراً، هاجر من مكة إلى المدينة، ولكن ذلت قدمه واستزله الشيطان فوقع في عرض عائشة واتهمها بلا بينة ولا تثبت بأنها فعلت الفاحشة رضي الله عنها. ثم إن الله أنزل براءتها في آيات تُتلى، وفي هذا قطع بتكذيب كل من تكلم في عرضها. فقال أبو بكر رضي الله عنه: “والله لن أنفق على مسطح بعد اليوم”، كأي أب ينتصر لابنته المظلومة، كأي أب يقول: “والله لن أنفق على مسطح بعد اليوم”. فينزل الله سبحانه:
﴿ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم﴾
فيتراجع عن قوله ويقول: “والله لن أمنع النفقة عن مسطح بعد اليوم”. وعائشة ابنته هي العافية أيضاً، يأتيها حسان بن ثابت يستأذن، وكان حسان ممن طعنوا في عرضها واتهموها بلا بينة بأنها فعلت الفاحشة، ونزل التكذيب في آيات الإفك، فجاء يستأذن بالدخول عليها لأمر يريده، فأذنت له كي يسأل من وراء حجاب. فقال لها عروة ابن أختها: “يا أم المؤمنين، أتأذنين لهذا الرجل؟ لقد قال ما قال، وأنزل الله تكذيبه في القرآن والله يقول:
﴿ومنهم الذي تولى كبره له عذاب عظيم﴾
فلن تنسى عائشة الفضلة، وقالت: “أي عذاب أشد من العمى؟ لقد أصيب بالعمى. ثم يا عروة، إنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم”. فاعتبرت منافحته ودفاعه عن رسول الله، ولم تهملها ولم تجحدها، بل حفظت له ما عرفته الذي صنع رضي الله تعالى عنها. وعفوا عنهم وعفت عن حسان رضي الله عنه الذي صدر منه. وهكذا تتوالى الأمثلة على ذلك، أمثلة الصانعين الكاظمين الغيظ العافين عن الناس. وما من جرعة يتجرعها عبد مسلم أعظم من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء لوجه سبحانه.
ولا يخفى عليكم أمر عمر مع عيينة بن حصن الفزاري الذي قال: “يا عمر بن الخطاب إنك لا تحكم بالعدل ولا تعطينا الجذلة”، تعطينا ما تعطينا من المال إلا الفتات المتبقي منك ومن أهلك، وكذلك أنت ظالم جائر. فهمَّ عمر أن يبطش به، فذكره مذكر بقوله تعالى:
﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾
فيقول الراوي: فوالله ما تجاوزها عمر، فقد كان وقافاً عند كتاب الله عز وجل. ولقد قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: “ما أُمر الله بقوله خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين إلا في أخلاق الناس”. فهذا خلق عظيم ألا وهو العفو عن الناس. ولقد ذكره الله به في ثلاث آيات من كتابه الكريم من ثلاث سور على نسق في بيان التراقي في التعامل مع شياطين الإنس وشياطين الجن، إذا كان ثَمَّ آيات أخرى متفرقة في الكتاب العزيز فيها صدد.
في سورة الأعراف:
﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإن ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم﴾
وفي سورة المؤمنين:
﴿ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون﴾
وفي سورة فصلت:
﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم﴾
آياته تحمل مدلولاً واحداً وتدل عليه هو: طريقة التعامل مع الظلمة من الإنس بالعفو عنهم وتأليف قلوبهم. أما الجن الشيطان فلا ينفع معه تأليف القلب ولا يرضى منك إلا بالكفر، فلهذا أمرت بالتعوذ بالله منه. وجدير بك فإذا وصلك مسه من أحد أو يتطاول عليك جاهل من الجهلاء أن تعامل الإساءة بالإحسان، ذلك أقوى في دفع الشياطين، شياطين الإنس وشياطين الجن على السواء، ثم واقعي لتسليم القلوب.
ولا يخفى عليكم أمر ثمامة بن أثال مع النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيله قِبَل نجد فأتت بثمامة أسيراً، فرُبط في المسجد، رُبط في سارية من سواري المسجد. فنفعه لأنه كان يسمع القرآن مشوشاً عليه، فإذا رُبط في سارية من سواري المسجد سمع القرآن عن قُرب، ورأى الصحابة في صلاتهم وسكناتهم وتعاملاتهم ففهم الإسلام عن قرب. فخرج إليه النبي يقول: “أسلم يا ثمامة”، فأبى أن يسلم. مر عليه مرة ثانية يقول: “يا ثمامة ما عندك يا ثمامة؟” قال: “عندي والله خير يا محمد، إن تُنعم تُنعم على شاكر”، أي إن تفضلت عليّ وأطلقت سراحي فسأشكر لك صنيعك، “وإن تقتل تقتل ذا دم”، لي أهل سيطالبون بدمي، “وإن كنت تريد المال فسَل من المال ما شئت وأعطيك إياه”. فسكت النبي وسكت، فمر عليه في اليوم التالي: “أسلم يا ثمامة ما عندك؟” قال نفس المقولة: “عندي يا محمد والله خير، إن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسَل من المال ما شئت”. وفي اليوم الثالث كذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: “أطلقوا ثمامة”، فأطلقوه. فذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل وجاء وقال: “أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله يا رسول الله ما كان على وجه الأرض وجهاً أبغض إليّ من وجهك، وإنه الآن أحب وجه على الأرض إليّ، وما كان على وجه الأرض بلداً أبغض إليّ من بلدك، وهي أحب بلاد الله إليّ. والله يا رسول الله لن يصل إلى أهل مكة شيء من الحنطة ولا قطمير”، كانت اليمامة هي التي تصدر القمح إلى أهل مكة. “والله لن يصل إليهم شيء من القمح ولو قطمير حتى تكون أنت الذي تأذن لهم فيها”. وبدأ الحصار على أهل الكفر في مكة ومنع عنهم حتى جاعوا، أكلوا العهن ومصّوا النوى والجلد والجيف من شدة الجوع، إلى أن أتوا النبي يسألونه: “جئنا بصلة الرحم، وها نحن مصصنا النوى وأكلنا الجيف”، فأنزل الله سبحانه:
﴿أن كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون﴾
في بعض الأحاديث المتداخلة معه بعضها، فكان هذا من ثمرات العفو، وكان هذا من ثمرات الصفح عن الناس. وصدق الله إذ يقول:
﴿فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم﴾
فيكفي لك إذا جانبت هذا الجانب أن الله يحبك وأن درجتك ترتفع وأن تزداد عزاً في الدنيا فضلاً عن الآخرة، وأن الله يتولاك ويرعاك. وكما أشار الإمام العالم ابن القيم رحمه الله عند تفسير قوله تعالى:
﴿ذلك ومن عاقب بمثل من عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله﴾
قال ما حاصله: إذا ضربك شخص ضربة فرددت عليه بضربة مثلها، ثم اعتدى عليك فقد اقتصصت لنفسك، فالله ناصرك، لأن الله قال: “ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله”. فهذا بحق المنتصر بقدر المظلمة، فما ظنك هكذا بقول ابن القيم للذي ترك حقه كله لله، يتولى الله الدفاع عنه دفاعاً أشد وأعظم. ولقد أرشدنا إلى العدل ولقد أمرنا بالعدل، وأرشدنا بالفضل بعد ذلك في أكثر الآيات التي تدعو إلى القصاص.
قال تعالى:
﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به﴾
ولكن:
﴿ولئن صبرتم لهو خير للصابرين﴾
فأيهما أفضل لك؟ لقد لُطمت لطمة، نعم لك أن تلطم من لطمك لطمة مثلها. وقال تعالى: “وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين”. نعم لك إن سُببت أن تسب من سبّك بقدر ما سبك.
قال تعالى في كتابه الكريم:
﴿لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً﴾
فالذي ظُلم له أن يجهر بالسوء من القول إلا بالدعاء على الظالم بقدر المظلمة، وإما بأن ينال منه بنحو القدر الذي سبه به. ولكن: “وبعد أن تُبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً”. حتى في القصاص البدني يقول تعالى ذكره:
﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن والجروح قصاص﴾
شخص تعمد أن يفقأ عين شخص، فللذي فُقئت عينه أن يفقأ عين الظالم التي مثلها فقط. أو شخص تعمد أن يكسر سِنة لشخص، للمضروب أن يكسر سِنة الضارب له ذلك. “وكتبنا عليهم أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص”. ولكن من الأفضل من ذلك كله:
﴿فمن تصدق به فهو كفارة له﴾
إذا قلت: “عفا الله عنك”، حطّ عنك من الخطايا بقدر عفوك. إذا قُتل لك قتيل، لك أن تقتل القاتل، ولكن أيهما أفضل؟ وقال تعالى: “فمن تصدق به فهو كفارة له”. كفارة لمن؟ قيل: كفارة للعافي عن النفس لولي الدم، تُحط عنه خطاياه. وقيل: كفارة عن القتيل نفسه، خطاياه حُطت عنه بعد قتله بسبب عفو أولياء الدم عن هذا الدم.
تتوالى هذه المعاني
وتتوالى هذه المعاني في عدة آيات لتقرير هذا المعنى.
﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾
العدل: هو القصاص، والإحسان: هو العفو. نحوه:
﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على الله﴾
أي لا يعلمه ولا يعلم قدره إلا الله، ولن يكافئ به إلا الله، هو الذي يكافئ المكافأة التي تستحقها، “فمن عفى وأصلح فأجره على الله”. وهكذا تتوالى النصوص المثبتة لهذا المعنى الجليل، معنى القصاص ثم بعد القصاص الإرشاد إلى العفو. معنى جليل ترتفع به الدرجات وتحط به الخطيئات، وبه بإذن الله تقال العثرات وتغفر الزلات.
وهنا معنى ينبغي أن يشار إليه وهو من الأهمية بمكان كريم، هذا المعنى مفاده أن الله سبحانه وتعالى خلقنا أطواراً، ومن معاني خلقكم أطواراً أن الناس خلقوا على طبائع مختلفة. فهذا الرجل حليم لا يكاد يغضب، عاقل ورزين. وهذا الآخر سريع الانفعال، حاد الطباع. وهذا الثالث لا يتريث في الأخبار بل يندفع. وهذا الرابع ماكر وذو دهاء. الناس يختلفون في سجاياهم وفي طبائعهم وفي أخلاقهم. فإذا رزقك الله الحلم ومنَّ عليك به، كنت حليماً عاقلاً لا تنفعل سريعاً، ألا يجدر بك أن تقدم لهذه النعمة شكراً؟ وتصبر على إخوانك الذين من شأنهم الانفعال والاندفاع؟ فإنهم سرعان ما يتراجعون عما صدر منهم ويعتذرون. فإن ذلَّت قدم أحد إخوانك وتلفظ بألفاظ بذيئة لأن جبلته حادة وهو منفعل وحاد الطباع، وامتصصت أنت تلك الغضبة وقلت: “غفر الله لك”، في حال هدوئك وما منَّ الله عليك به من كريم الأخلاق وهدوء الطباع، تكون قد شكرت نعمة الله عليك ويزيدك الله سبحانه وتعالى من هذه النعمة، إذ أنه قال:
﴿لئن شكرتم لأزيدنكم﴾
أما إن اتخذت غضبة أخيك سبيلاً للنيل منه والتشهير به، وقد اعتذر، فلست بشاكر للنعمة حينئذ.
إن الشخص قد يكون صالحاً صلاحاً كبيراً وعلى درجة عالية من الصلاح، ولكن من جبلته أنه يندفع، وفي اندفاعه يغضب ويخطئ، ولكنه سرعان ما يعتذر. فمثله تقال عثرته وتغفر زلته. وهكذا كانت أمنا الكريمة زينب بنت جحش – رضي الله عنها – فزينب هذه – رضي الله عنها – يكفيها فخراً فخراً أن الله هو الذي زوجها للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – بدون ولي، وقال:
﴿فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها﴾
الذي زوجها واختارها للنبي محمد – عليه الصلاة والسلام – هو رب العباد سبحانه علام الغيوب العليم الخبير، العليم بمن خلقهم. وكانت هذه الأم الكريمة أمنا زينب بنت جحش – رضي الله عنها – عابدة كما سلف، تقوم الليل تصلي. إن تعبت ربطت وسطها بحبل حتى لا تسقط، إلى أن أمر النبي بحله وقال: “ليصلِ أحدكم نشاطه”.
كانت تعمل في البيت، تمهد لدبغ الجلود، تدلك الجلود تمهيداً لدباغها وتتقاضى أجراً حتى تتصدق به. وكانت صادقة اللهجة، وكانت ابنة عمة رسول الله، أمها أميمة بنت عبد المطلب – رضي الله عنها -، وكانت على درجة عالية من الحسن والجمال. ولكن كما قالت عائشة: “ما رأيت امرأة قط أعبد ولا أشد اجتهاداً وابتذالاً لنفسها في العمل الذي تتقرب به إلى الله، ولا أشد تصدقاً من زينب بنت جحش، وهي التي كانت تساميني في المنزلة عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم -“. ولكن كانت تصدر منها حدة تعتريها الفينة بعد الفينة، أي لسانها كان حاداً، تصدر منها الشدة ولكنها تسرع، تسرع منها الفيئة، يعني ترجع عما قالته بسرعة، يعني في الغضب الشديد تتلفظ بألفاظ شديدة ولكنها تندم وترجع إلى الله سبحانه وتطلب العفو ممن أساءت إليهم في حقهم.
هذه الخصلة لم يتفطن لها زيد بن حارثة – رضي الله عنه -، وكان دائم الشكوى منها لرسول الله – عليه الصلاة والسلام -: “زينب تفعل، زينب تفعل”. وأما عن زينب فأعلم بعض ما قاله، ولكن فيها خصال خير، لم يدم الأمر بينهما ولم تدم المعيشة بينهما، وكلاهما على خير. هذا مبشر بالجنة في نص، وهي أيضاً زوجها ربنا: “فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم”. آل الأمر بينهم إلى الطلاق فطلقت.
شاهدي: أن من الناس من جبلته التسرع والاندفاع أحياناً، جُبل على هذا ولكنه يتراجع عن ذلك سريعاً. فمن كان هذا شأنه، جدير بك أن تعرف خصاله وأن تصبر عليه إذا ذلت منه الأقدام. أما أنت إذا كنت تورطه حتى ينفعل، فإذا انفعل أخطأ فمسكت عليه هذا الخطأ، فربنا هو الذي سيعاقبك، هو الذي سيتولى عقابك إذا كنت تتعمد أن تثير إخوانك المسلمين وتحملهم على الاندفاع والانفعال حتى يخطئوا، فأيقن أن الله سيسلمهم وينجيهم وأنت الذي ستبتلى، لأن الأعمال بالنيات ولأن الأعمال بالمقاصد، والنبي يقول: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”، وقال:
﴿إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم﴾
لكن في هذا تشجيع على الاندفاع؟ كلا، بل فقط التذكير بأن جبلات الناس تختلف. فإذا كنت ممن أنعم الله عليهم بالهدوء وبالتأني وبالتريث فاحمد الله على النعمة وقدم لهذه النعمة شكراً، شكراً يتمثل في الصبر على الناس، في الصبر على حماقات الناس، في الصبر على جهالات الناس، حتى يزيدك الله سبحانه من النعم التي أنعم الله بها عليك.
أيها الإخوة، ولا يقف العفو عند العفو عن الخوض في الأعراض فحسب، بل حتى عن الماديات المحسوسة وعن الماليات أيضاً يتجه العفو. فربنا سبحانه وبعد أن قضى للمرأة المطلقة قبل المسيس، قبل الدخلة، قضى بأن لها نصف الصداق، قال تعالى:
﴿وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة فنصف ما فرضتم﴾
أي فلهن نصف ما فرضتم، نصف الصداق المتفق عليه. ثم أرشد إلى العفو قائلاً:
﴿إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح﴾
قيل هو الزوج يعفو لها عن النصف ويترك لها الصداق كاملاً، وقيل هو الولي. “إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم”. فإذا طُلقت المرأة التي لم يدخل بها الزوج، يفترض أن لها نصف الصداق، ولكن عفوها أرفع لها درجة عند الله من أن تأخذ نصف الصداق الذي لها، ولكن قلَّ العاملون بذلك. قلَّ العاملون بذلك، ونسأل الله العافية من ابتلاءات الدنيا وفتنها. فعفو المرأة المطلقة قبل المسيس عن نصف الصداق لها، يقول الله في شأنه: “وأن تعفوا أقرب للتقوى”. وعفو الزوج الموسر عن نصف الصداق لزوجته كأن يتركه جميعاً لها، أقرب لتقواه أيضاً. ففي ذلك فليتنافس المتنافسون، يتنافسوا في أيهما أقرب للتقوى، فالدنيا فانية وزائلة.
وفي الحديث عن رسول الله – عليه الصلاة والسلام – أنه قال في معنى الحديث: “كان ممن كان قبلكم رجل لم يكد يفعل خيراً، لقي الله بعد موته، فسُئل: هل عملت حسنة؟ (هل لك من حسنات؟) قال: لا. ولكنني كنت فقط أرسل فتياني لأني كنت أداين الناس (أداين الناس يعني أعطي الناس ديوناً)، فأقول لهم: انظروا الموسر وتجاوزوا عن المعسر، لعل الله أن يتجاوز عنا”. (يعني أنا أعطي الناس ديوناً وأرسل غلماني وفتياني لجمع الديون فأوصيهم بوصية: لا تشددوا على العباد، الموسر الذي تعلل أمره شيئاً ما، والمعسر تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا). فقال الله له: “نحن أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي”. تجاوزوا عن عبدي، فتجاوز الله عنه لتجاوزه عن الناس. فهكذا العفو يفعل وهكذا المغفرة تفعل. اغفروا يغفر لكم، ارحموا تُرحموا، تجاوزوا عن الناس وعن زلاتهم يتجاوز الله عنكم.
إن رجلاً اقترض من رجل مالاً وجاء يقاضيه في المسجد، اقترض عبد الله بن أبي حضرض من كعب بن مالك مالاً، فجاء يقاضيه في المسجد وارتفعت الأصوات. كعب يطالب بديونه، بأمواله، والآخر يعتذر: “ما عندي، أمهلني، أنا معسر”. ارتفعت الأصوات، فخرج عليه الصلاة والسلام يقول: “يا كعب بن مالك، ضع من دينك هكذا”، وأشار إلى النصف. قال: “قد فعلت يا رسول الله”. فقال لعبد الله بن أبي حضرض: “قم فاقضه”، أي قم فتصرف في النصف الآخر وائتِ به. بذلك تنتهي المشكلة، فقام والحمد لله.
فالتجاوز والعفو لا يكون فقط عن التجاوز في الأعراض، بل يمتد إلى التجاوز عن الماليات. قال تعالى ذكره:
﴿وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وإن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون﴾
(إن كان ذو عسرة أي إن كان المدين معسراً، فنظرة أي إمهال إلى ميسرة). “وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون”.
أيها الإخوة، لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وهكذا في كل جوانب الحياة والأخلاق. لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، سواء كانت نفقة مالية أو تصدقاً بأعراضكم التي انتهكت على أيدي أقوام، فالله يدافع عنكم والله يتولى أمركم، فقد قال وقوله الحق:
﴿وهو يتولى الصالحين﴾
فاحرصوا على أن تكونوا من ذوي الأخلاق العالية والأخلاق النبيلة السامية، احرصوا على أن يتولاكم الله وعلى أن تدخلوا مستعينين بالله في عداد المحسنين، في عداد الكاظمين للغيظ، في عداد العافين عن الناس، حتى تجتمع كلمتنا وحتى تأتلف قلوبنا، وذلك برضا الله سبحانه وتعالى عنا ومغفرته لذنوبنا. فاغفروا يغفر لكم وتجاوزوا يتجاوز الله عنكم واستغفروا ربكم إنه كان غفاراً.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
فمن ثمرات هذا العفو عن الناس كما سلف أن الله سبحانه وتعالى يدخلنا في عداد المحسنين الذين يحبهم ويرضى سجاياهم، “الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين”. وإذا جاهدت نفسك كي تعفو، فإن الله قال:
﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾
ومن ثمرات ذلك أن قلبك يطمئن. فإذا وصلتك مسبة من شخص فقلت: “عفا الله عنه”، سينعكس ذلك على قلبك في الحال وعلى الفور بإيمان تجد حلاوته في قلبك، وستنقطع عنك الوساوس وستنقطع عنك الهواجس بامتثالك لأمر الله: “خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”. سيكرمك الله سبحانه إذا امتثلت هذا الأمر بأن يطمئن قلبك وأن يذهب غيظ قلبك، وسيأتي يوم، وإن أخطأ فيك هذا الشخص الآن وشعر بخطئه لعله وبعد سنوات يأتيك ويطلب عفوك في حال هدوء قلب وراحة بال، يفكر في ذنوبه التي اقترفها في حياته فيقول: “كان في حياتي أني ظلمت فلاناً”، فيأتيك معتذراً، يأتيك معتذراً. وإن لم يفعل هذا فستنال أجرك عند الله سبحانه وتعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أيها الإخوة، ما ذكر يتعلق بمن ذلت منهم الأقدام ومن ذلت منهم الألسن، ولكن ثَمَّ استثناءات من كل عموم تحصل منه استثناءات. فإذا كان هناك عدو صائل معتدي باغٍ، لا نقل ذلت قدمه فقتل، لا بل إن القتل شيمته والسرقة دأبه والعدوان سبيله، فمثل هذا الذي إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، مثله يكون العفو عنه في غير محله، بل يؤخذ بالشدة لصالحه أيضاً حتى ينزجر عن الفساد في الأرض فيسلم في آخرته.
ومن هنا جاءت نصوص محكمات في التنزيل، قال الله في شأنها مثنياً على فريق من عباده:
﴿والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون﴾
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون. هنا في محل الثناء هنا، ولكن الانتصار كما سلف بقدر المظلمة، والعفو في حق من ذلت منهم الأقدام والتعثرات أولى. أما إذا كان عدواً صائلاً فكما يذكر في قوله تعالى:
﴿ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد﴾
قالوا: هذا في المتصدي للعدو الصائل الذي يمشي في البلاد قتّالاً وسبّاباً وشتّاماً، سفّاكاً للدماء، أكّالاً للأموال، فمثله العفو يزيده طمعاً ويزيده كبراً وعتواً واستضعافاً للناس، فهذا يلزم ردعه حتى ينكف شره عن المسلمين والمسلمات وعن بلاد المسلمين والمسلمات. فلهذا فقه، لهذا فقه في محله، فارق بين من ذلت أقدامهم وتعثروا وشتموك أو سبّوك أو لعنوك وتابوا وأنابوا، وبين من هو للشر أهل وللقتل أهل وللسرقة أهل. فالعدو الصائل يؤخذ على يديه. ومن ثم قال الله سبحانه لذي القرنين:
﴿يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً﴾
وقال سليمان عليه السلام:
﴿مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين﴾
وهنا تأتي الحكمة التي يؤتيها الله من يشاء، تأتي الحكمة بتنزيلك للأمور منازلها الصحيحة: متى أنتصر؟ متى أعفو؟ هل المقام مقام عفو وتجاوز أم المقام مقام قصاص؟ أيهما أفضل؟ هنا تأتي الحكمة التي قال الله فيها:
﴿يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب﴾
أيها الإخوة، لا تنسوا الرسالة التي من أجلها خلقتم، فقد خلقتم للابتلاء والاختبار في هذه الدنيا. خلقتم وكلفتم بطاعة الله وتوحيده والاستقامة على أمره والبعد عن الشرك بالله سبحانه وتعالى. كلفتم بالتوحيد وكلفتم بتكاليف في كتاب ربكم وفي سنة نبيكم، وستسألون عن تلك التكاليف وستسألون أيضاً عن الدواوين التي كلفتم بها. فثَمَّ حقوق لله ستسألوا عنها، وثَمَّ حقوق للعباد ستسألوا عنها، وثَمَّ حقوق للآل والأولاد والبنات ستسألوا عنها، وثَمَّ حقوق عامة للمؤمنين ستسألوا عنها بين يدي الله. هل وصلتم أم قصرتم؟ هل سعيتم في التأليف بين القلوب المؤمنة أم سعيتم للتفريق بينها؟ هل سعيتم للإصلاح أم سعيتم في الأرض بالفساد؟ هل أنتم من المحسنين المتصدقين الكاظمين الغيظ العافين عن الناس، أم أنتم من المختلسين اللصوص المفسدين في الأرض؟ – نعوذ بالله من ذلك.
كل سيسأل، فلا يحسبن أحدكم أنه سيُضرب عنه الذكر صفحاً.
قال تعالى:
﴿أفنضرب عنكم الذكر صفحًا أن كنتم قوماً مسرفين﴾
وقال تعالى:
﴿أيحسب الإنسان أن يترك سدى﴾
أي هملًا بلا سؤال ولا حساب؟
قال تعالى:
﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون﴾
فتعالى الله الملك الحق، لا إله إلا هو رب العرش الكريم. تعالى الله سبحانه عن العبث، فربنا لا يعبث. ولا تظنوا أبداً أنكم خلقتم هكذا للأكل والشرب والجماع، لا تظنوا هذا أبداً، بل خلقتم لغاية أسمى ولغاية أرفع، وهي توحيد الخالق البارئ والاستقامة على أمره والعمل بكتابه وبسنة رسوله الكريم. فقد قال:
﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾
لم تُرسَل الرسل أبداً لتُعصى، ولم تُرسَل الرسل أبداً لتُخالف، ولم تُرسَل الرسل ليُختلف عليها، بل ما أرسلت الرسل إلا لتطاع.